فصل: مباني الناصر.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.سطوة الناصر بابنه عبد الله.

كان الناصر قد وشحه ابنه الحكم وجعله ولي عهده وآثره على جميع ولده ودفع إليه كثيرا من التصرف في دولته وكان أخوه عبد الله يساميه في الرتبة فغص لذلك وأغراه الحسد بالنكثة فنكث وداخل من في قلبه مرض من أهل الدولة فأجابوه وكان منهم ياسر الفتى وغيره ونمي الخبر بذلك إلى الناصر فاستكشف أمرهم حتى وقف على الجلي فيه وقبض على ابنه عبد الله وعلى ياسر الفتى وعلى جميع من داخلهم وقتلهم أجميعين سنة ثلاث وتسعين.

.مباني الناصر.

ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد المباني والقصور وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد اختلفوا في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الاتفاق والضخامة وكان منها المجلس الزاهر والبهو الكامل والقصر المنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم وسماه دار الروضة وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ثم أخذ في بنا المنتزهات فاتخذ مينا الناعورة خارج القصور وساق لها الماء من أعلى الجبل على بعد المسافة ثم اختط مدينة الزهراء واتخذها منزله وكرسيا لملكه فأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما علا على مبانيهم الأولى واتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياح ومسارح الطيور ومظللة بالشباك واتخذ فيها دارا لصناعة آلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس.

.وفاة الناصر وولاية ابنه الحكم المستنصر.

ثم توفي الناصر سنة خمسين وثلثمائة أعظم ما كان سلطانه وأعز ما كان الإسلام بملكه وكان له قضاة أربعة: مسلم بن عبد العزيز وأحمد بن بقي بن مخلد ومحمد بن عبد الله بن أبي عيسى ومنذر بن سعيد البلوطي ولما توفي الناصر ولي ابنه الحكم وتلقب المستنصر بالله وولى على حجابته جعفر المصحفي وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة كاملو الشيكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندوية وثلثمائة ونيف وعشرون درعا مختلفة الأجناس وثلثمائة خوذة كذلك ومائة بيضة هندية وخمسون خوذة حبشية من حبشيات الإفرنجة غير الحبش التي يسمونها الطاشانية وثلثمائة حربة إفرنجية ومائة ترس سلطانية الجنس وعشرة جواشن نقية مذهبة وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس ولأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور فغزا الحكم بنفسه واستباحها وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جليقة وسار إلى مدينة سالم قبل الدخول لدار الحرب فجمع له الجلالقة ولقيهم على أشتة فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلاد فردلند القومس ودوخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض فأغزاه الحكم يحيى بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم وامتنعوا في حصونها وعاث في نواحيها وأغزى الهذيل بن هاشم ومولاه غالبا فعاثا فيها وقفلا وعظمت فتوحات الحكم وقواد الثغور في كل ناحية وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب فعمرها الحكم واعتنى بها ثم فتح قطريبة على يد قائد وشقة وغنم ما فيها من الأموال والسلاح والآلات والأقوات وفي بسيطة من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلاد ألبة ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون فأخذ حصن غرماج ودوخ بلادهم وانصرف وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير وأفسدوا بسايط أحشبونة وناشبهم الناس القتال فرجعوا إلى مراكبهم وأخرج الحكم القواد لاحتراس السواحل وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماجس بتعجيل حركة الأسطول ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل ثم كانت وفادة أردون بن أدفونش ملك الجلالقة وذلك أن الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير وهو ابن عمه وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية واستظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلية ثم توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر فبادر بالوفادة على الحكم مستجيرا به فاحتفل لقدومه وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله ووصل إلى الحكم وأجلسه ووعده بالنصر على عدوه وخلع عليه لما جاء ملقيا بنفسه وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فردلند القومس وأعطى على ذلك صفقة يمينه ورهن ولده غرسية ودفعت الصلات والحملات له ولأصحابه وانصرف معه وجوه نصارى الذمة بقرطبة وليد بن مغيث القاضي وأصبغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق وعبد الله بن قاسم مطران طليطلة ليوطؤا له الطاعة عند رسميته ويقبضوا رهنه وذلك سنة إحدى وخمسين وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قولب من أهل جليقة وسمورة وأساقفهم يرغب في قبوله ويبقى بما فعل أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين ثم بعث قومس الفرنجة برسل ومنيرة أثناء سير ملك برشلونة وطركونة وغيرها يسألان تجديد العهد وإقرارهما على ما كانا عليه وبعثا بهدية وهي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة وعشرون قنطارا من الصوف السمور وخمسة قناطير من الفرصدس وعشرة أذراع صقلبية ومائتا سيف إفرنجية فقبل هديتهم وعقد لهم على أن يهدما الحصون التي بقرب الثغور وعلى أن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم وأن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح بعد أن كان توقف فعقد لهم الحكم ورجعوا وفي سنة خمس وستين وردت أم لزريق بن بلاكش القومس بالقرب من جليقة وهو القومس الأكبر فأخرج الحكم لتلقيها واحتفل لقدومها في يوم مشهود فوصلها وأسعفها وعقد السلم لابنها كما رغبت وأحبت ودفع لها مالا تقسمه بين وفدها وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت ثم أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف وأجازهم البحر إلى قرطبة ثم أجلاهم إلى الإسكندرية حسبما نشير إلى ذلك كله بعد وكان محبا للعلوم مكرما لأهلها جماعة للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله قال ابن حزم: أخبرني بكية الخصي وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير فأقام للعلم والعلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر ووفد عليه أبو علي الغالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه وحسنت منزلته عنده وأورث أهل الأندلس علمه واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه وكان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ويسرب إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني وكان نسبه في بني أمية وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده إلا مما يذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر أمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة كما نشير إليه بعد واتصلت أيام الحكم المستنصر وأوطأ العساكر أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته ملوك زناتة ومغراوة ومكناسة فبثها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم ووفد عليه ملوكهم من آل خزر وبني أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم.